ترجمة كامل يوسف حسين
من لقاء مع "النهار" - 22 شباط 2004
قل أيها الشاعر، كيف يولد الشعر؟
- هو يجيء من مرتفعات غير مرئية. أصوله غامضة ومعتمة، وينابيعه مستوحدة ومعطرة. كمثل نهر يأتي ويجرف كل ما يقع في درب تياره. كمثل نهر أيضا يشق طريقه بين القمم ويذيع نشيده البلوري في المروج. يسقي الحقول ويعطي خبزه للجائعين. يمشي بين سنابل القمح ويروي عطش الرحالة. وعندما يناضل الرجال أو يرتاحون، وحده يغني لهم، يجمعهم ويصهرهم ويعجنهم ويسري فيهم مؤسسا الشعوب. هكذا يولد، وهكذا يعبر سهول الأرض حاملا الى الجذور وعدا باستمرار الحياة.
وهل تستطيع هذه الحياة التي يحملها في رحمه ان "تقتل" الموت المتفشي في عالمنا؟
- ما نفع الأبيات ان لم تكن ضد ذاك الليل الذي يخترقنا كخنجر مرّ؟ ما نفعها ان لم تجعل النهار اقل سخفا والغروب اشد غروبا؟ ما حاجتنا إليها ان لم تكن ذاك الركن الحزين والجميل حيث يطيب لأجسادنا المطعونة ان تتهيأ للموت؟ نحن الشعراء نكره الكراهية ونحارب الحرب بالكلمة.
وما الكلمة؟
- جنح من أجنحة الصمت. قطعة ارض اعشقها، انا الذي لا املك نجمة سواها بين كل مروج السماء. هي التي تكرر الكون وتكثّره. هي بيتي أيضا. شيّدتها فسيحة رحبة لكي العب فيها من الصباح الى الصباح.
لم تكتب؟
- انها طريقتي لكي أكون وحيداً. لا اكتب لتسجنني الكتب بين طياتها. اكتب من اجل العصافير. ومن اجل أيلول. اكتب أيضا من اجل الناس البسطاء، رغم انهم لن يستطيعوا قراءة شعري بعيونهم الريفية. لكن ستجيء لحظة يصل فيها سطر من سطوري، أو بعض الهواء الذي يهزّ كياني الى آذانهم، وربما يقولون آنذاك: كان رفيقا حقيقيا. وهكذا يكفي. إنه التاج الذي أريد.
كيف تصف نفسك بابلو؟
- ولدت من صدر وطني الغباري، ومن جذع الشعر. لي قلب نجار، وكل ما المسه يصبح غابة. أحب عالم الريح وغالباً ما تختلط عيناي بأوراق الأغصان. لا أميز بين النساء والربيع، بين الرجل والشجرة، بين الشفاه والجذور.
ولم جئت الى هنا؟
- أتيت لاغني ولتغنوا معي. فأنا شعوب، شعوب كثيرة، واملك في صوتي القوة النقية لكي اعبر صمتكم وانزرع في العتمات. أيامي مصنوعة من كل الحيوات، فالشاعر أوسع من البحر وجزره، ويجب ان تنزلوا فيه مثل بئر لكي تخرجوا من الهاوية بغصن مياه سرية وحقائق مغمورة.
كل هذه الحيوات. إلا تتعب أحيانا من انك..؟
- يحدث أحيانا ان ادخل معمل خياطة أو صالة سينما، ذابلا بائساً كبجعة ورقية تبحر في مياه من رماد. يحدث ان تدفعني رائحة صالونات التزيين أو دخان المحرّكات الى الانفجار بكاء. فأنا أريد فقط مسندا من حجر أو من صوف، أريد فقط إلا أرى المؤسسات ولا المصانع ولا الأسواق ولا النظارات الطبية ولا المصاعد الكهربائية. يحدث أيضا ان اتعب من قدميّ ومن أظافري ومن شعري ومن ظلي. بلى، يحدث في الحقيقة ان اتعب من كوني رجلا...
ذكرت الحقيقة. هل هي موجودة حقا؟
- الحقيقة هي ان ليس ثمة حقيقة. لقد متّ، وهذا أمر يعرفه الجميع رغم ان الجميع يخفيه. ماتت الحقيقة ولم تتلق أزهارا. ماتت ولم يبكها احد.
وأنت، هل أنت ميت حقا؟
- ميت هو ذاك الذي يصبح عبدا لعاداته، مكررا نفسه كل يوم. ذاك الذي لا يغيّر ماركة ملابسه ولا طريق ذهابه الى العمل ولا لون نظراته عند المغيب. ميت هو ذاك الذي يفضّل الأسود والأبيض والنقاط على الحروف بدلا من سرب غامض من الانفعالات الجارفة، تلك التي تجعل العينين تبرقان، وتحوّل التثاؤب ابتسامة، وتعلّم القلب الخفقان أمام جنون المشاعر. ميت هو ذاك الذي لا يقلب الطاولة ولا يسمح لنفسه ولو لمرة واحدة في حياته بالهرب من النصائح المنطقية. ذاك الذي لا يسافر ولا يقرأ ولا يصغي الى الموسيقى، ذاك الذي لا يقبل مساعدة احد ويمضي نهاراته متذمرا من سوء حظه أو من استمرار هطول المطر. ميت هو من يتخلى عن مشروع قبل ان يهم به، ميت من يخشى ان يطرح الأسئلة حول المواضيع التي يجهلها، ومن لا يجيب عندما يُسأل عن أمر يعرفه. ميت ٌ من يجتنب الشغف ولا يجازف باليقين في سبيل اللايقين من اجل ان يطارد احد أحلامه.
ميتٌ؟ انا؟ كلا، لست كذلك. لنقل أني صامت فحسب.
وما هي الأسئلة التي رافقتك الى صمتك ولا تخشى طرحها؟
- كثيرة هي.
لِمَ تخبئ الأشجار روعة جذورها؟ لِمَ تنتحر الأوراق عندما تشعر بأنها صفراء؟ لِمَ تبكي الغيوم الى هذا الحد، ولِمَ كلما بكت ازدادت مرحا وخفة؟ والدموع التي لا تُبكى، هل تنتظر دورها في بحيرات صغيرة، أم انها تصبح انهارا غير مرئية تتدفق نحو الحزن؟ وهل ثمة ما هو أكثر بعثا على الكآبة من قطار متوقف تحت المطر؟
من يتألم اشد، ذاك الذي لا ينفك ينتظر أو ذاك الذي لم ينتظر أحدا قط؟ كم من الأسئلة لدى الهرّ وكم يبلغ عمر تشرين؟ كم أسبوعا في اليوم الواحد وكم عاماً في شهر؟ وما اسمه ذاك الشهر الذي يحل بين كانون الأول وكانون الثاني؟
من هم أولئك الذين صرخوا فرحاً عندما ولد اللون الأزرق؟ وما اسمها الزهرة التي تطير من عصفور الى عصفور؟ أين منتصف البحر، ولم لا تركض الأمواج اليه؟ كم المسافة بالأمتار المستديرة بين الشمس والبرتقالة؟ لم أجمل الأنهار ذهبت لتجري في فرنسا؟
الم يكن صحيحا إذا ان الله يعيش في القمر؟ أليست الحياة سمكةُ تهيأ لتكون عصفورا؟ أين انزرعت عينا الرفيق بول ايلوار؟ وعندما كان يبكي بودلير هل كانت تنهمر دموعه سوداء؟ هل أستطيع ان اسأل كتابي إذا كنت انا من كتبه حقا؟ من يسعه ان يجيبني ما الذي جئت افعله في هذا العالم؟ ما الذي سيقوله عن شعري أولئك الذين لم يلمسوا دمي؟ وهل ثمة أغبى من ان يحمل المرء اسم بابلو نيرودا؟
هل تراكِ تعرفين من أين يجيء الحب؟ امن فوق أو من أسفل؟
- آه، الحب... لو أوتي لك اليوم ان تعود لتهمس بضع كلمات في إذن المرأة التي تحب، ما الذي كنت لتقوله لها يا ابلغ العشاق؟
- إنني جائع الى فمكِ، الى صوتكِ، وأهيم في الشوارع دون غذاء، صامتاً جريحاً، باحثاً عن حفيف قدميكِ السائل في أوردة النهار. قبّليني واحرقيني يا امرأة، فأنا ما عشت وما مت إلا من اجل ان تغرق عيناي في مياه عينيكِ اللامتناهية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق